تأثير الليبيين في الحضارتين المصرية واليونانية وتأثرهم بها
صفحة 1 من اصل 1
تأثير الليبيين في الحضارتين المصرية واليونانية وتأثرهم بها
تأثير الليبيين في الحضارتين المصرية واليونانية وتأثرهم بها
(2)
بقلم : احمد سعيد عبد الرحمن
من الواضح الجلي ، أن العقائد الدينية ، والنزعة الفنية في أي شعب ، هما أبرز مقومات حضارته ، وأن مظاهرهما البارزة من الممكن أن تنعكس على سائر الفكر الحضاري لعصر معين ، سادت تلك العقائد فيه ، وتجلت نزعتها الفنية في تراثه . ولسنا في حاجة إلى التدليل على هذه العلاقة ، التي بين المعتقد والاتجاه الحضاري ، وحتى إذا نحن احتجنا إلى تقديم الأدلة على وجودها وتأكدها ، في بعض فترات التاريخ ، فإننا لا نعتقد أننا أو غيرنا في حاجة إلى شيء من هذا حين الحديث عن الحضارة الفرعونية ، التي قامت وخلدت بفعل هذين العاملين بالذات .
وإذا نحن تلمسنا التأثير الحضاري لليبيين في تراث الحضارة المصرية ، فإننا نجده في أبرز مظاهر هذه الحضارة ، وهما : الدين والفن . وليس الجزم بهذا التأثير الليبي في الحضارة المصرية القديمة قطعا بالسهل ، ولكنه مع ذلك ليس بالأمر المستحيل ، فإن بعض المعبودات المصرية القديمة ، قد أعيدت إلى أصل ليبي ، ومعظم المعبودات المصرية القديمة قد رسمت في المقابر وعلى الجدران ، وهي ترتدي أو تتزين بأشياء معينة ، اختص قدماء الليبيين وحدهم بارتدائها ، والتحلي بها في النقوش والرسومات ، التي تمثلهم على آثار مصر الفرعونية . وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فإن (أزيرس) إله الغرب (نب إمنت) ، وسيد عالم ما بعد الحياة في الميثولوجيا المصرية ، قد أرجعه السير (فلندرز بتري) في أصله إلى الليبيين صراحة ، حينما رأى أن عبادة (أزيرس) الوافدة على مصر من ليبيا قد غيرت كثيرا من طقوس ومفاهيم سائر المعبودات المصرية الأخرى ؛ فتحولت هذه حتى في أشكالها الحيوانية إلى بشر برؤوس الحيوانات التي كانت الأصل لها قبل ذلك . أما غيره من العلماء فقد جعله أسيويا في أصله ، وإن استقر في غرب الدلتا ، وعبد على أنه إله الغرب ، ولكن تابوته قد حمل رمز الأفعى والريشتين وهما من مميزات الليبيين قديما .
ونجد الموضع الذي انتقل إليه اليونان ، في أسطورة النزوح الإغريقي ، عند هيردوت قد سمى باسم (ازيريس) وإذا كانت هذه التسمية لموضع أو لمدينة أو لمعبد ليبي (رواية هيرودوت لا تساعدنا على التحديد) ، فإن هذا المكان ربما كان هو الموضع الوحيد ، الذي حمل اسم هذا المعبود صراحة في ليبيا . وتجدر الملاحظة هنا بأنه لا يعرف في مصر القديمة (حسب معلوماتنا) مكان واحد من سائر مقاطعات الوجهين ، القبلي والبحري معا باسم هذا الإله ، إذا استثنينا مدينة بوسيريس (بوصير) التي لا تضم معبدا خاصا به ، إذ من المعلوم أنه كان موزعا في الأسطورة كجدث بين 14 أو 16 مقاطعة من مقاطعات الوجهين .
و (نيت) معبودة الدلتا الغربية ، قد اختص الليبيون وحدهم بالتزين بحمل رمزها المقدس -وشما- على أذرعتهم في النقوش المصرية الفرعونية . وقد نقلوا هذه المعبودة الليبية أصلا إلى قرطجنة أيضا ، حيث عرفت باسم (تانيت) ، كما أنها اتحدت أيضا عند اليونانيين (خاصة هيرودوت) بالمعبودة اليونانية (أثينا) . ويكاد يجمع مؤرخو مصر الفرعونية على أن (نيت) هذه كانت معبودة ليبية أصلا ، استقرت في شمال الدلتا منذ عصور ما قبل الأسرات . وحتى الإله (ست) يرى البعض أنه ليبي الأصل ، فقد ظل حتى عهد الأسرة الثانية يحمل لقب (سيد ليبيا) كما ظل يعرف أيضا بلقب (حامي الأرض الحمراء) أي الصحراء . وكان في العصر الثيني إلها ليبيا في الشرق والغرب والجنوب على السواء . وقد ذكر هيرودوت أن الليبيين كانوا لا يأكلون لحم الخنزير ، ونحن نعرف أن هذا الإله (ست) قد مثل بهذا الحيوان ، بعد أن سادت عبادة (أزيرس) ، وأن المصريين كانوا لا يأكلون لحم هذا الحيوان القذر هم أيضا ولذات السبب .
وذكر هيرودوت أيضا أن النساء الليبيات كن لا يتناولن لحم البقرة ؛ لأنها الحيوان المقدس للمعبودة المصرية (أزيس) زوجة وأخت الإله (ازيرس) ، وهن يشتركن في هذا مع المصريات ولذات السبب . وعلى وجه العموم فمن الواضح من رسوم كثير من أشخاص الإلهة المصرية ، تينك الريشتان اللتان حملهما الليبي فوق رأسه طوال فترة التاريخ الفرعوني ، وكذلك ذيل الحيوان (الأسد، الثور) ، وذلك الكيس أو الجعبة ، ستار العورة عند الذكور ، والتي لا يرسم الليبي من دونها إلا نادرا في النقوش المصرية ، وقد حملتها بعض رسومات الإلهة ، كما حملها بعض الفراعنة كذلك .
ومع أن القول بأن التأثير الحضاري لليبيين في مصر الفرعونية كان قوي التغلغل والنفوذ ، لا يزال في حاجة إلى البحث المركز الدقيق من قبل المختصين في أصول الحضارات ، وخاصة في الحضارة المصرية ، إلا أنه يمكن القول بأن المؤرخ لا يسعه إنكار هذا التأثير الحضاري الواضح في كتاباته عن تلك العهود السحيقة من حياة الشعبين المصري والليبي إذا كتب . وإذا كان إبراز تأثير الليبيين في الحضارة المصرية على صعوبة البحث فيه ممكنا ، لما كشف عنه من آثار الحضارة الفرعونية ، الغنية برسوماتها ونقوشها ونصوصها ، التي أمكن للعلماء فك رموزها منذ عشرات السنين ، فإن تأثر الليبيين بالحضارة المصرية ، أصعب من ذلك كثيرا ، لقلة ما لدينا من معلومات عن الليبيين في عصور ما قبل التاريخ من المصادر الأخرى غير المصرية ، ولانعدام البحوث الحفرية المنظمة وغير المنظمة عن آثار ومخلفات الإنسان الليبي في عهود الأسرات الفرعونية ، وفي عهود ما قبل الأسرات ، وبعضا من النقوش والرسومات البدائية التي كشف عنها الباحثون بين صخور جبال ومرتفعات وأودية الجنوب (وادي زقرة ، وادي مسعودة ، تاسيلي ، اكاكوس ، العيونات ) ، قد أعطتنا بعض الأدلة الباهتة عن تأثر الليبيين بالمعتقدات وبالفن المصري .
ولو أننا ذهبنا إلى أبعد من هذا ، ولجأنا إلى الاستقراء ، فالاستنتاج كما فعل ويفعل بعض المؤرخين ، لرأينا في اسم مدينة برقة (Barca) ، الذي ورد لأول مرة في تاريخ هيرودوت ، تأثيرا مصريا فرعونيا واضحا ، فالكلمة من الجائز أن تكون مركبة من كلمتين مصريتين قديمتين هما (بر) ومعناها (بيت) و(كاو) ومعناها (القرين) ، وهي مفرد (كاو) . وليس من غايتنا هنا أن ندخل في تفصيلات عقائد المصريين القدماء في الموت وما بعد الموت من تسميات وفلسفات ، ولكننا نجد أنفسنا مضطرين إلى ذكر شيء من أمر هذه الـ(كا) أو (القرين) ، إنها في رأي إرمان : ( القوة المحببة الحيوية) ، وهي في رأي شتيندورف : (الروح الحارس) ، وهي في نظر مسبيرو : ( البديل) أو (المكرر) ، أي القرين . وتأتي الـ(الكا) في نظر علماء قدماء المصريين إلى الوجود في نفس اللحظة التي يولد فيها الإنسان ، وهي هيولية وليست عنصرا من عناصر الشخصية أو الجسد ، ولكنها أيضا ليست سماوية مثل الـ(با) التي تمثل عادة على صورة طائر ، بل إن الـ(كا) تعيش في العالم الآخر ، عالم ما بعد الحياة ، وفيها تحل الـ(با) بعد وفاة الشخص وانتقاله إلى عالم (أزيرس) .
وإذا علمنا أن كلمة (بر) ، أي (بيت) تعني في المصرية (معبد) كما قد تعني (مدينة) أو (منطقة) ، أمكننا أن تحتمل أن تكون كلمة برقة BAR-KA التي ذكرت من هيرودوت على أنها المدينة المنافسة سياسيا واقتصاديا لمدينة قورينة اليونانية ، تسمية مصرية ليبية معناها (بيت الكاو) ، أو (بيت الكا) أي (مدينة القرائن) مع العلم بأن سيد هذا البيت هو أزيرس إله الغرب وملك عالم ما بعد الحياة . ولا نريد أن نذهب بعيدا ، فنتصور في منافسة برقة الليبية لقورينة اليونانية ، نوعا من الصراع العقائدي بين الليبيين عبدة (اوزير) أي (أزيرس) وبين اليونان عبدة (أبولون) و (زيوس) . على الأقل في بداية أمر الاحتكاك ؛ لأن الاستنتاج الذي ذهبنا إليه هنا لا يزال في حاجة إلى المزيد من التعمق في الدراسة والبحث ، قبل التسليم به وإصدار أحكام ، وتعليلات تاريخية على ضوئه من مثل هذا الاحتمال . وقد ذكر هيرودوت في تاريخه أن القبائل الشرقية من برقة ، كانت لها عقائد وعادات المصريين كما ذكر قضية امتناع الليبيين عن أكل لحم الخنزير ، (حيوان ست المقدس) ، وعن لحم البقرة (حيوان ايزيس المقدس) ، وبعض أمور أخرى تشير إلى تأثر الليبيين بالحضارة المصرية
وفي الرسومات والنقوش البدائية التي عثر عليها في وبعد النصف الأول من القرن العشرين ، في عديد من المناطق الصحراوية ، مما يعد بالآلاف الكثير من الموضوعات التي تبرز نوعا من الاتصال الحضاري بالمصريين ، فأسلوب رسم بعض الأشخاص فيها كامل الوضوح وبعض الحيوانات حملت فوق الرأس قرص الشمس (رمز الإله رع) ، ورسومات برؤوس حيوانات ، بل وأقنعة ذات طراز مصري حميم ، وكانت الأفعى المقدسة ، على جباه بعض هذه الصور واضحة كل الوضوح . هذه وغيرها من المواضيع التي تزخر بمثيلاتها موضوعات الفن المصري القديم ، نجدها في مجموعات الرسم التي نشرت بعد اكتشافها من قبل الباحثين في تلك الأودية والجبال الصحراوية الجرداء في جنوب البلاد . ولكن قضية هذه الرسومات والنقوش البدائية لا تزال تحير العلماء الباحثين ، فإنه من غير السهل الحكم بحداثة عهدها أو قدمه على عهد الأسرات المصرية ، وحتى تحل هذه القضية بصورة نهائية ، فإنه يصعب معرفة ما إذا كانت هذه الحضارة الصحرواية ليبية الأصل ، وبالتالي فهي دليل جديد على تأثر المصريين في فنهم أيضا بالحضارة الليبية ، أم أنها كانت دليلا على تأثر الليبيين بالحضارة المصرية وحسب ، ودليلا أكيدا على تغلغل الحضارة المصرية حتى تلك الجهات النائية البعيدة عن وادي النيل بعشرات المئات من الكيلومترات ، على أنها في الحالين دليل أكيد على الوحدة الحضارية أصلا في الشعبين الليبي والمصري ، أو على الأقل دليل على الاتصال الحضاري العريق بين الشعبين .
(2)
بقلم : احمد سعيد عبد الرحمن
من الواضح الجلي ، أن العقائد الدينية ، والنزعة الفنية في أي شعب ، هما أبرز مقومات حضارته ، وأن مظاهرهما البارزة من الممكن أن تنعكس على سائر الفكر الحضاري لعصر معين ، سادت تلك العقائد فيه ، وتجلت نزعتها الفنية في تراثه . ولسنا في حاجة إلى التدليل على هذه العلاقة ، التي بين المعتقد والاتجاه الحضاري ، وحتى إذا نحن احتجنا إلى تقديم الأدلة على وجودها وتأكدها ، في بعض فترات التاريخ ، فإننا لا نعتقد أننا أو غيرنا في حاجة إلى شيء من هذا حين الحديث عن الحضارة الفرعونية ، التي قامت وخلدت بفعل هذين العاملين بالذات .
وإذا نحن تلمسنا التأثير الحضاري لليبيين في تراث الحضارة المصرية ، فإننا نجده في أبرز مظاهر هذه الحضارة ، وهما : الدين والفن . وليس الجزم بهذا التأثير الليبي في الحضارة المصرية القديمة قطعا بالسهل ، ولكنه مع ذلك ليس بالأمر المستحيل ، فإن بعض المعبودات المصرية القديمة ، قد أعيدت إلى أصل ليبي ، ومعظم المعبودات المصرية القديمة قد رسمت في المقابر وعلى الجدران ، وهي ترتدي أو تتزين بأشياء معينة ، اختص قدماء الليبيين وحدهم بارتدائها ، والتحلي بها في النقوش والرسومات ، التي تمثلهم على آثار مصر الفرعونية . وعلى سبيل المثال لا الحصر ، فإن (أزيرس) إله الغرب (نب إمنت) ، وسيد عالم ما بعد الحياة في الميثولوجيا المصرية ، قد أرجعه السير (فلندرز بتري) في أصله إلى الليبيين صراحة ، حينما رأى أن عبادة (أزيرس) الوافدة على مصر من ليبيا قد غيرت كثيرا من طقوس ومفاهيم سائر المعبودات المصرية الأخرى ؛ فتحولت هذه حتى في أشكالها الحيوانية إلى بشر برؤوس الحيوانات التي كانت الأصل لها قبل ذلك . أما غيره من العلماء فقد جعله أسيويا في أصله ، وإن استقر في غرب الدلتا ، وعبد على أنه إله الغرب ، ولكن تابوته قد حمل رمز الأفعى والريشتين وهما من مميزات الليبيين قديما .
ونجد الموضع الذي انتقل إليه اليونان ، في أسطورة النزوح الإغريقي ، عند هيردوت قد سمى باسم (ازيريس) وإذا كانت هذه التسمية لموضع أو لمدينة أو لمعبد ليبي (رواية هيرودوت لا تساعدنا على التحديد) ، فإن هذا المكان ربما كان هو الموضع الوحيد ، الذي حمل اسم هذا المعبود صراحة في ليبيا . وتجدر الملاحظة هنا بأنه لا يعرف في مصر القديمة (حسب معلوماتنا) مكان واحد من سائر مقاطعات الوجهين ، القبلي والبحري معا باسم هذا الإله ، إذا استثنينا مدينة بوسيريس (بوصير) التي لا تضم معبدا خاصا به ، إذ من المعلوم أنه كان موزعا في الأسطورة كجدث بين 14 أو 16 مقاطعة من مقاطعات الوجهين .
و (نيت) معبودة الدلتا الغربية ، قد اختص الليبيون وحدهم بالتزين بحمل رمزها المقدس -وشما- على أذرعتهم في النقوش المصرية الفرعونية . وقد نقلوا هذه المعبودة الليبية أصلا إلى قرطجنة أيضا ، حيث عرفت باسم (تانيت) ، كما أنها اتحدت أيضا عند اليونانيين (خاصة هيرودوت) بالمعبودة اليونانية (أثينا) . ويكاد يجمع مؤرخو مصر الفرعونية على أن (نيت) هذه كانت معبودة ليبية أصلا ، استقرت في شمال الدلتا منذ عصور ما قبل الأسرات . وحتى الإله (ست) يرى البعض أنه ليبي الأصل ، فقد ظل حتى عهد الأسرة الثانية يحمل لقب (سيد ليبيا) كما ظل يعرف أيضا بلقب (حامي الأرض الحمراء) أي الصحراء . وكان في العصر الثيني إلها ليبيا في الشرق والغرب والجنوب على السواء . وقد ذكر هيرودوت أن الليبيين كانوا لا يأكلون لحم الخنزير ، ونحن نعرف أن هذا الإله (ست) قد مثل بهذا الحيوان ، بعد أن سادت عبادة (أزيرس) ، وأن المصريين كانوا لا يأكلون لحم هذا الحيوان القذر هم أيضا ولذات السبب .
وذكر هيرودوت أيضا أن النساء الليبيات كن لا يتناولن لحم البقرة ؛ لأنها الحيوان المقدس للمعبودة المصرية (أزيس) زوجة وأخت الإله (ازيرس) ، وهن يشتركن في هذا مع المصريات ولذات السبب . وعلى وجه العموم فمن الواضح من رسوم كثير من أشخاص الإلهة المصرية ، تينك الريشتان اللتان حملهما الليبي فوق رأسه طوال فترة التاريخ الفرعوني ، وكذلك ذيل الحيوان (الأسد، الثور) ، وذلك الكيس أو الجعبة ، ستار العورة عند الذكور ، والتي لا يرسم الليبي من دونها إلا نادرا في النقوش المصرية ، وقد حملتها بعض رسومات الإلهة ، كما حملها بعض الفراعنة كذلك .
ومع أن القول بأن التأثير الحضاري لليبيين في مصر الفرعونية كان قوي التغلغل والنفوذ ، لا يزال في حاجة إلى البحث المركز الدقيق من قبل المختصين في أصول الحضارات ، وخاصة في الحضارة المصرية ، إلا أنه يمكن القول بأن المؤرخ لا يسعه إنكار هذا التأثير الحضاري الواضح في كتاباته عن تلك العهود السحيقة من حياة الشعبين المصري والليبي إذا كتب . وإذا كان إبراز تأثير الليبيين في الحضارة المصرية على صعوبة البحث فيه ممكنا ، لما كشف عنه من آثار الحضارة الفرعونية ، الغنية برسوماتها ونقوشها ونصوصها ، التي أمكن للعلماء فك رموزها منذ عشرات السنين ، فإن تأثر الليبيين بالحضارة المصرية ، أصعب من ذلك كثيرا ، لقلة ما لدينا من معلومات عن الليبيين في عصور ما قبل التاريخ من المصادر الأخرى غير المصرية ، ولانعدام البحوث الحفرية المنظمة وغير المنظمة عن آثار ومخلفات الإنسان الليبي في عهود الأسرات الفرعونية ، وفي عهود ما قبل الأسرات ، وبعضا من النقوش والرسومات البدائية التي كشف عنها الباحثون بين صخور جبال ومرتفعات وأودية الجنوب (وادي زقرة ، وادي مسعودة ، تاسيلي ، اكاكوس ، العيونات ) ، قد أعطتنا بعض الأدلة الباهتة عن تأثر الليبيين بالمعتقدات وبالفن المصري .
ولو أننا ذهبنا إلى أبعد من هذا ، ولجأنا إلى الاستقراء ، فالاستنتاج كما فعل ويفعل بعض المؤرخين ، لرأينا في اسم مدينة برقة (Barca) ، الذي ورد لأول مرة في تاريخ هيرودوت ، تأثيرا مصريا فرعونيا واضحا ، فالكلمة من الجائز أن تكون مركبة من كلمتين مصريتين قديمتين هما (بر) ومعناها (بيت) و(كاو) ومعناها (القرين) ، وهي مفرد (كاو) . وليس من غايتنا هنا أن ندخل في تفصيلات عقائد المصريين القدماء في الموت وما بعد الموت من تسميات وفلسفات ، ولكننا نجد أنفسنا مضطرين إلى ذكر شيء من أمر هذه الـ(كا) أو (القرين) ، إنها في رأي إرمان : ( القوة المحببة الحيوية) ، وهي في رأي شتيندورف : (الروح الحارس) ، وهي في نظر مسبيرو : ( البديل) أو (المكرر) ، أي القرين . وتأتي الـ(الكا) في نظر علماء قدماء المصريين إلى الوجود في نفس اللحظة التي يولد فيها الإنسان ، وهي هيولية وليست عنصرا من عناصر الشخصية أو الجسد ، ولكنها أيضا ليست سماوية مثل الـ(با) التي تمثل عادة على صورة طائر ، بل إن الـ(كا) تعيش في العالم الآخر ، عالم ما بعد الحياة ، وفيها تحل الـ(با) بعد وفاة الشخص وانتقاله إلى عالم (أزيرس) .
وإذا علمنا أن كلمة (بر) ، أي (بيت) تعني في المصرية (معبد) كما قد تعني (مدينة) أو (منطقة) ، أمكننا أن تحتمل أن تكون كلمة برقة BAR-KA التي ذكرت من هيرودوت على أنها المدينة المنافسة سياسيا واقتصاديا لمدينة قورينة اليونانية ، تسمية مصرية ليبية معناها (بيت الكاو) ، أو (بيت الكا) أي (مدينة القرائن) مع العلم بأن سيد هذا البيت هو أزيرس إله الغرب وملك عالم ما بعد الحياة . ولا نريد أن نذهب بعيدا ، فنتصور في منافسة برقة الليبية لقورينة اليونانية ، نوعا من الصراع العقائدي بين الليبيين عبدة (اوزير) أي (أزيرس) وبين اليونان عبدة (أبولون) و (زيوس) . على الأقل في بداية أمر الاحتكاك ؛ لأن الاستنتاج الذي ذهبنا إليه هنا لا يزال في حاجة إلى المزيد من التعمق في الدراسة والبحث ، قبل التسليم به وإصدار أحكام ، وتعليلات تاريخية على ضوئه من مثل هذا الاحتمال . وقد ذكر هيرودوت في تاريخه أن القبائل الشرقية من برقة ، كانت لها عقائد وعادات المصريين كما ذكر قضية امتناع الليبيين عن أكل لحم الخنزير ، (حيوان ست المقدس) ، وعن لحم البقرة (حيوان ايزيس المقدس) ، وبعض أمور أخرى تشير إلى تأثر الليبيين بالحضارة المصرية
وفي الرسومات والنقوش البدائية التي عثر عليها في وبعد النصف الأول من القرن العشرين ، في عديد من المناطق الصحراوية ، مما يعد بالآلاف الكثير من الموضوعات التي تبرز نوعا من الاتصال الحضاري بالمصريين ، فأسلوب رسم بعض الأشخاص فيها كامل الوضوح وبعض الحيوانات حملت فوق الرأس قرص الشمس (رمز الإله رع) ، ورسومات برؤوس حيوانات ، بل وأقنعة ذات طراز مصري حميم ، وكانت الأفعى المقدسة ، على جباه بعض هذه الصور واضحة كل الوضوح . هذه وغيرها من المواضيع التي تزخر بمثيلاتها موضوعات الفن المصري القديم ، نجدها في مجموعات الرسم التي نشرت بعد اكتشافها من قبل الباحثين في تلك الأودية والجبال الصحراوية الجرداء في جنوب البلاد . ولكن قضية هذه الرسومات والنقوش البدائية لا تزال تحير العلماء الباحثين ، فإنه من غير السهل الحكم بحداثة عهدها أو قدمه على عهد الأسرات المصرية ، وحتى تحل هذه القضية بصورة نهائية ، فإنه يصعب معرفة ما إذا كانت هذه الحضارة الصحرواية ليبية الأصل ، وبالتالي فهي دليل جديد على تأثر المصريين في فنهم أيضا بالحضارة الليبية ، أم أنها كانت دليلا على تأثر الليبيين بالحضارة المصرية وحسب ، ودليلا أكيدا على تغلغل الحضارة المصرية حتى تلك الجهات النائية البعيدة عن وادي النيل بعشرات المئات من الكيلومترات ، على أنها في الحالين دليل أكيد على الوحدة الحضارية أصلا في الشعبين الليبي والمصري ، أو على الأقل دليل على الاتصال الحضاري العريق بين الشعبين .
احمد سعيد- عضوية طالب
- المساهمات : 2
تاريخ التسجيل : 02/03/2010
مواضيع مماثلة
» الصحف اليومية المصرية
» الحضارة المصرية الفرعونية
» العصور و الاسر المصرية الاحدى عشر
» باقى العصور المصرية القديمة من الثانية عشر حتى الحادية و الثالثون
» الحضارة المصرية الفرعونية
» العصور و الاسر المصرية الاحدى عشر
» باقى العصور المصرية القديمة من الثانية عشر حتى الحادية و الثالثون
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى